كثيراً ما فكّرت في أنّه سيكون أمراً مباركاً أن يُصاب كلّ إنسان بالعمى والصّمم، لبضعة أيام، خلال شبابه المبكّر. فمن شأن الظلمة الدّامسة أن تجعله أكثر تقديراً لرؤية الأشياء، ومن شأن الصّمت المطبق أن يعلّمه بهجة سماع الأصوات.
بين حين وآخر، كنت أعمد إلى اختبار أصدقائي المبصرين، لكي أعرف ماذا يبصرون. وقد زارتني مؤخّراً إحدى صديقاتي الحميمات، وكانت عائدة لتوّها من جولة في الغابة، فسألتها عمّا لاحظته خلال جولتها، فكانت إجابتها هي التالية: (لاشيءَ يستحقّ الذّكر) !
ربما كنت، في الماضي، ميّالة إلى عدم تصديق ذلك، لكنني، منذ وقت طويل، أصبحت مقتنعة بأنّ المبصرين لا يرون إلاّ قليلاً ! كيف يمكن لمن يتجوّل في الغابة لمدّة ساعة ألاّ يرى فيها شيئاً يستحقّ الذّكر؟ أنا، التي لا أستطيع الرؤية، أجد مئات الأشياء المثيرة لاهتمامي، بمجرّد اللمس. أشعر بتناسق أوراق الشّجر الناعمة، وأمرّر يدي، بسعادة، حول القشرة الملساء لشجرة البتولا، أو اللحاء الخشن لشجرة الصّنوبر. وفي الرّبيع ألمس غصون الأشجار، مفعمة بالأمل, بحثاً عن البراعم.. عن العلامة الأولى ليقظة الطبيعة بعد سباتها الشتوي... وأحسّ بمنتهى البهجة حين يندفع ماء الغدير البارد خلال أناملي المتباعدة.
إنّ بساط أوراق الصنوبر الإبريّة، أو العشب الإسفنجي، هما بالنسبة لي، أكثر إثارة للحفاوة والسرور من أجمل سجّادة فارسيّة، وإنّ مهرجان الفصول، بالنسبة لي، هو دراما مثيرة لا تنتهي " . تلك مقتطفات من مقالة طويلة بعنوان (ثلاثة أيّام للرؤية) كانت قد كتبتها الأمريكية (هيلين كيلّر) وهي في عامها الثالث والخمسين، ونشرت في عدد يناير لعام 1933 بمجلة (أتلانتيك مونثلي).
وعلى الرّغم من أنّ الجميع يعلم أنّ (هيلين كيلّر) قد كانت عمياء صمّاء بكماء، منذ طفولتها المبكّرة، فإنّي أجزت لنفسي القول بأنّها (كتبت) تلك المقالة، ولم أقل (أملَتْها)، وذلك لكي أؤكّد ما ذهبَتْ إليه من أنّ العميان لا يرون، فقط، أكثر من المبصرين، بل هم يستطيعون أيضاً أن يفعلوا ما لايستطيعه كثير من المبصرين، إذ أنني لا أستبعد أن تكون قد كتبت تلك المقالة بنفسها فعلاً، وشفيعي في ذلك أنني رأيت بعيني نماذج من رسائلها ضمن كتابها (قصّة حياتي)، وكانت جميعها بخطّ يدها، وهو برغم غرابته، كان خطّاً جميلاً ومميّزاً !
ليس من العدل أن يُقال بأنّ هيلين كيلّر كانت صندوقاً مُقفلاً (بالعمى والصّمم والبَكَم).. لأنّ لكلّ صندوق بابه، ولكلّ قفل مفتاحه. والصواب في حالتها أن يُقال إنّها كانت مجرّد عقل محبوس داخل مكعّب صلْد مصمت لاباب له ولا قفل.. ومن هنا تبدو عظمة المعجزة التي جعلت مثل هذا العقل يخرج إلى الدنيا ويتواصل مع النّاس، بالقراءة والكتابة، وينال الشهادات الجامعية، على الرّغم من محبسه المُركّب !
في تلك المقالة التي تمنّت فيها هيلين أن تتاح لها الرؤية لمدة ثلاثة أيّام فقط، كان أوّل ما أرادت أن تراه هو وجه مدرّستها الحبيبة (آني سوليفان) التي حملت، عن جدارة واستحقاق، لقب (صانعة المعجزة) . ونحن هنا حيال معجزة أخرى تستحقّ أن يفرد لها مقال خاص، لكنّ مايعنينا الآن هو كونها من أوائل المنتظمين في صفّ أولئك العميان الذين رأوا أكثر ممّا يراه المبصرون .
إنّ (آني سوليفان) التي صنعت معجزة هيلين كيلّر، والتي عُرفت بعزوفها عن الشهرة والأضواء، كانت قد عاشت حياة أسوأ كثيراً من حياة تلميذتها، وذلك لأنّها كانت طفلة يتيمة فقيرة تتقاذفها أيدي المحسنين وجمعيات البِر، فيما كان بصرها ينطمس حتى العمى التام. ومع هذا فقد تعلّمتْ كيف تقرأ بطريقة (بريل)، وفيما كانت تقترب من نهاية دراستها الأوّلية، استطاع أحد الأطباء أن يُعيد إلى إحدى عينيها بصيصاً من النّور، فأقبلت، بشراهة الجائع، على قراءة الكتب بكثافة كبيرة، حتى أطفأت ذلك البصيص في النهاية، لكنّها كانت قد اختزنت ذخيرة لا تنتهي من المعارف التي أهّلتها، وهي في العشرينات، لفتح مغاليق ذلك المُكعّب الصّلْد عن ذلك العقل الجميل الّذي كانته (هيلين كيلّر) .
إنّ المرء ليذهل من مدى حبّ أولئك النّاس للقراءة، للدرجة التي يغامرون فيها بإطفاء آخر بصيص من أبصارهم، مقابل التهام صفحات الكتب، فيما هو يرى (أمّة إقرأ) تُطفئ عيونها في كلّ شيء إلاّ القراءة، وكأنّ القراءة، بالنسبة لها، هي الإثم الأكبر الذي دونه نار الجحيم !ولأنّ الشيء بالشيء يُذكر، فإنّ الرغبة الحارقة في قراءة الكتب هي وحدها التي دفعت الصبي الفرنسي الأعمى (لويس بريل) إلى ابتكار أبجدية خاصّة من النقط البارزة، صارت تطبع بها الكتب، منذ مايقرب من مائتي عام، ليقرأها ملايين العميان في جميع أنحاء الأرض، بأطراف أصابعهم !
إنّ ذلك الصبي الذي اخترع تلك الطريقة التي سُمّيت باسمه، وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، هو بذاته معجزة عظيمة أخرى تستحق التّوقف عندها طويلاً، فلولاه لما كان لآني سوليفان أن تتلمس الطريق في ظلمة العمى إلى نور معجزتها، ولما كان لها، بعد ذلك، أن تصنع معجزة هيلين كيلّر . طوبى لأولئك المُبصرين الذين أنجبتهم أمم القراءة، ولا عزاء للعميان من أمم الأميّة !
أحمد مطر